الرجاء منكم إدخال جميع البيانات و الموافقة على الشروط للمشاركة
نـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداء
لتسجيل “مقدمة” ابن خلدون على لائحة
ذاكرة العالم لليونسكو
في أوج السيطرة الأوروبية على العالم، اعترف أرنولد توينبي بأن المؤرخ العربي عبد الرحمان بن خلدون هو أكبر المنظّرين للتاريخ وأكثرهم جرأة، إلى جانب الشخصيات الأساسية للحداثة، على غرار مونتسكيو وماركس. وكانت “المقدمة”، وهي أثره الأبرز، قد ترجمت على دفعات إلى اللغات الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، وألهمت جزءا هاما من الأبحاث، بل أيضا من الممارسات، حول الإسلام والمغرب الكبير والهند، خلال الفترة الاستعمارية.
لقد واجه ابن خلدون مصيرا غريبا، هو المتعلّم الذي نشأ في بيئة ميسورة كانت تهيئه إلى العيش المرفّه ماديا وثقافيا، بالقرب من مراكز السلطة. لكن الطاعون ضرب مسقط رأسه تونس في سنة 1348، وأباد أهله، ودفع به إلى غربة لم ينقطع عنها أبدا، حملته من فاس وتلمسان إلى القاهرة ودمشق، مصحوبا دوما بتهديدات الوباء، وتوفي بالقاهرة سنة 1406خلال العشرية التي شهدت أكبر عدد من ضحايا هذه الكارثة في مصر. فكأن المقدمة قد جاءت ردّا على الوباء وموقفا متقدّما للفكر في مواجهة هذا الداء العضال. ولقد أكتشف ابن خلدون المحفّزات الرئيسية للدولة وللحضارة وهو يراقب الأزمة الضخمة المترتّبة عن هلاك 20حوالي 30 بالمائة من البشر على ضفاف المتوسط في قرن واحد، تماما مثلما يكتشف أحدنا مكوّنات آلة معقّدة عندما يراها مهشّمة أمامه. فقد أدرك أن كل شيء مرتبط بأعداد البشر وتجمّعاتهم الحضرية وتمركزهم وتضخّم طلباتهم وكفاءاتهم، لكنّ هذا المد يرتبط بالدولة وبقوة الإكراه لديها. لا يمكن لغيرها أن يفرض ذلك كله، كما يرتبط بالعنف الذي ينبغي للدولة أن توجّهه حتى إلى أطرافها الممانعة.
لا أحد قبل ابن خلدون في مقدمته، بما في ذلك المؤسسون الإغريق لعلم التاريخ، قد بلغ الحدّ الذي ذهب إليه في الربط بين السياسة – بما هي الدولة- وبين تنظيم المدينة والمهن والزيادة في الإنتاجية وازدهار العمران، أي –اختصارا- على كل العناصر التي نصنّفها اليوم تحت عنوان الاقتصاد أو علم الإجتماع. ولا أحد أيضا، مثل ماكيافيل و هوبس من بعده، قد ماثل ابن خلدون في عمق النظر وفي قوّة البيان بأن مهد أكبر الحضارات رقيّا قد تضمّن العنف بالضرورة، وآنه، على العكس من ذلك، لا عنف الاّ وهو يتطلع إلى العظمة السلمية للحضارة ويساهم في دعم تلك العظمة وإقامة صرحها. فكأن المقدمة هي الرديف الروحي لأعمال فرويد عندما حلّلت مفارقات العنف والرغبة. وكأنها مثلها، تقدّم شكلا نادرا لأحدى المنظومات الفكرية التي تتخذ محورا لها الهزيمة التي ترتقي بالجنس البشري.
إن هذا الأثر العبقري جدير بأن يسجّل على لائحة ذاكرة العالم لدى اليونسكو.